آخر المواضيع

    الأربعاء، 26 فبراير 2025

    تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا ومقارنة تاريخية

     تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا ومقارنة تاريخية

    تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا ومقارنة تاريخية

    ما بعد الطغيان :

     

    في خضم الأحداث المؤلمة التي تشهدها سوريا وبينما ما زالت التحقيقات جارية حول الحادث المؤسف الذي راح ضحيته أحد الصاغة في دمشق نجد أنفسنا أمام مشهد أكثر تعقيدًا من مجرد جريمة فردية فالواقع المعيشي الصعب، والانقطاع المستمر للكهرباء، والتحديات الاقتصادية الخانقة كلها انعكاسات لحالة البلاد بعد سنوات طويلة من حكم نظام الأسد، الذي لم يكتفِ بالقمع السياسي بل عمل على تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية للشعب السوري.  


    لكن ما هو أكثر إيلامًا من هذه التحديات، هو غياب الوعي لدى البعض حول طبيعة المراحل التي تمر بها الدول بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية. إذ أن الفوضى والتخبط ليست حالات استثنائية، بل هي جزء لا يتجزأ من أي تحول تاريخي كبير. وهنا يأتي السؤال: هل ما تمر به سوريا اليوم هو أمر غير طبيعي؟ أم أن التاريخ يخبرنا بأن هذه المرحلة هي سنة كونية تمر بها جميع الدول بعد سقوط الطغاة؟  


    دروس من التاريخ: الفوضى بعد سقوط الاستبداد


    تُظهر تجارب الأمم عبر التاريخ أن الفترات التي تلي سقوط الأنظمة القمعية غالبًا ما تتسم بالفوضى وعدم الاستقرار، حيث تترك هذه الأنظمة إرثًا سامًا يمتد لسنوات، إن لم يكن لعقود. دعونا نلقي نظرة على بعض أبرز التجارب العالمية:  


    1️⃣ فرنسا : بعد الثورة (1789-1799): عشر سنوات من الدماء والاضطراب

    عندما انتفض الفرنسيون ضد الملكية، كانوا يتوقعون أن يؤدي ذلك إلى عصر جديد من الديمقراطية والرخاء، لكنهم وجدوا أنفسهم في واحدة من أكثر الفترات دموية في التاريخ. شهدت البلاد ما يُعرف بـ"عهد الإرهاب"، حيث أُعدِم الآلاف، وتصارعت الفصائل الثورية فيما بينها. لم يتحقق الاستقرار الفعلي إلا بعد وصول نابليون للحكم عام 1799، وحتى ذلك الحين، كانت فرنسا تعيش حالة من الفوضى والصراع المستمر.  


    2️⃣ ألمانيا : بعد سقوط النازية (1945): 15 عامًا من الفقر والانقسامات

    بعد هزيمة هتلر وسقوط الرايخ الثالث، لم تتحول ألمانيا فجأة إلى القوة الاقتصادية العظمى التي نعرفها اليوم. بل غرقت في الفوضى، وكان الفساد والبطالة والانقسامات السياسية تنهش البلاد. حتى عام 1960، أي بعد 15 عامًا من الحرب، لم تبدأ ألمانيا بالاستقرار الفعلي من خلال ما سُمي بـ"المعجزة الاقتصادية الألمانية".  


    3️⃣ إيطاليا : بعد سقوط موسوليني (1943): عقدان من الفوضى والصراعات  

    بعد سقوط الفاشية عام 1943، لم تجد إيطاليا طريقها نحو الاستقرار فورًا. على العكس، دخلت في دوامة من الصراعات السياسية، حيث انهارت الحكومات الواحدة تلو الأخرى، وتفشى الفساد والجريمة. ولم تبدأ النهضة الإيطالية إلا في الستينيات، أي بعد أكثر من 20 عامًا من سقوط الديكتاتورية.  


    4️⃣ إسبانيا : بعد وفاة فرانكو (1975) : اضطرابات ومحاولات انقلابية 

    عندما توفي الديكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو عام 1975، لم تسلك إسبانيا طريقًا سهلًا نحو الديمقراطية. شهدت البلاد محاولات انقلابية، وصراعات حزبية حادة، ولم يتحقق الاستقرار السياسي إلا بعد عشر سنوات من التقلبات وعدم اليقين.  


    5️⃣ الولايات المتحدة : بعد الاستقلال (1776): 13 عامًا من التشتت السياسي

    بعد إعلان استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، لم يتحقق الاستقرار الفوري. كانت البلاد تعاني من أزمات سياسية واقتصادية حادة، واستمرت في التخبط حتى تم إقرار الدستور الأمريكي عام 1789، أي بعد 13 عامًا من إعلان الاستقلال.  


    لماذا يحدث هذا دائمًا ؟  


    ما يحدث بعد سقوط أي نظام استبدادي ليس أمرًا مفاجئًا، بل هو نتيجة طبيعية لعدة عوامل:  


    1️⃣  الفراغ الأمني والإداري

    تترك الأنظمة القمعية إدارات مليئة بالفساد والمحسوبيات، مما يجعل إعادة ضبط الدولة عملية بطيئة وشاقة. كما أن انهيار القبضة الحديدية للنظام يُنتِج فجوة أمنية تؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة.  


    2️⃣  التدهور الاقتصادي والإفلاس المالي

    غالبًا ما يكون الاقتصاد في عهد الأنظمة القمعية منهكًا بسبب السياسات الفاسدة، وعند سقوطها، تظهر المشكلات الاقتصادية على السطح، مما يزيد من معاناة الشعوب.  


    3️⃣  التغيير الاجتماعي والنفسي

    الشعوب التي عاشت عقودًا تحت القمع تصبح معتادة على الخوف والاستبداد، وعندما يتحرر الناس فجأة، يجدون صعوبة في التأقلم مع واقع جديد يتطلب تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات بأنفسهم.  


    سوريا : حالة استثنائية رغم الصعوبات


    بالنظر إلى هذه التجارب، نجد أن سوريا لم تنزلق إلى الفوضى العارمة التي شهدتها دول أخرى، رغم كل محاولات النظام السابق لإشعال الفتن وإغراق البلاد في دوامة العنف. وهذا يُعزى إلى عدة عوامل:  


    🔹 وعي الشعب السوري : رغم القهر الطويل، أظهر السوريون مستوىً عاليًا من النضج، حيث لم ينجروا إلى حالة انفلات أمني واسع، بل حافظوا على الحد الأدنى من الاستقرار رغم الظروف القاسية.  


    🔹 غياب النزعة الانتقامية : في العديد من الثورات، تحوّل الصراع إلى تصفية حسابات دموية، لكن في سوريا، كان الخطاب السائد يميل إلى المصالحة الوطنية بدلاً من تأجيج الكراهية.  


    🔹 رفض الإقصاء السياسي : لم تلجأ القيادة الجديدة إلى فرض سياسات استبدادية مضادة، بل حاولت اعتماد منهج متوازن يُبقي الجميع ضمن إطار العمل الوطني.  


    واقعية التوقعات : لا للإحباط ولا للتجميل


    ✔️ انتقاد الأخطاء ومكافحة الفساد والجريمة أمر ضروري 

    ✔️ لا يمكن السكوت عن أي تجاوزات تحدث

    ✔️ لا يجب تجميل الواقع وإخفاء العيوب


    لكن في المقابل، لا يجب السماح بحالة من الإحباط المبالغ فيه وكأن كل شيء ينهار. يجب أن تكون التوقعات ضمن نطاق "المعقول"، إذ أن إعادة بناء المجتمعات بعد الاستبداد عملية معقدة تستغرق وقتًا، ولا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها.  


    يكفي أن نتذكر أن نظام الأسد لم يكتفِ بالقمع، بل زرع الشقاق بين أبناء الشعب السوري، حتى أصبح كثيرون يتجسسون على بعضهم البعض، ويبيعون إخوتهم للمخابرات. لقد تمكن هذا النظام من إقناع طياريه بقصف قراهم، فكيف يمكن توقع أن تعود النفوس إلى طبيعتها بسهولة بعد كل هذا الخراب؟  


    إن إصلاح دولة دمرها الاستبداد لعقود ليس أمرًا سهلاً، لكن ما يميز الشعب السوري هو وعيه وإرادته القوية. وبينما تسير سوريا في طريقها الصعب نحو المستقبل، من المهم أن يتسلح أبناؤها بالصبر والعزيمة، مع إدراك أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى وقت، لكنه قادم لا محالة



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق

    اترك تعليق لتشجيعنا على الاستمرار دمتم بكل خير مع تحيات شبكة زينو ياسر محاميد