على حافة الموت كنا ستة عشر
على حافة الموت كنا ستة عشر . "وائل الزهراوي"
وفي الزنزانة التاسعة عشرة في مطار المزة العسكري فرع المخابرات الجوية كانت ملامح عبد الخالق حين عاد سليماً من التحقيق على غير عادتة توحي أن دماً سورياً جديداً سيسفك تلك الليلة
فنحن من جيلٍ كَبرَ قبل أن يولد . وحين ولد وجد أباءه لازالوا يَحْبونَ بقربه .ولأن الزنزانة كانت بالأصل زنزانة فردية كان نصفنا يقفُ بينما يجلس النصف الآخر لكي نستريح قليلاً وما ان التقت عيناي بعيني عبد الخالق حتى ألصق وجهه بالجدار كأنه يختبئ فيه وآخر ما أردته في حياتي أن تكون نهاية عبد الخالق تحت الجادر
ولاح لي هول فقدان عبد الخالق ذاك الشابُ الحمصيُ النبيل فرغم كل قطع اللحم التي أخذوها من جسده كان يتحداهم بما تبقى منه لا ينهار تحت التعذيب . تشعر بمجرد أن تقف أمامه أنكَ تعاين رجلاً حقيقياً و سورياً أصيلاً و شجاعاً لا يخاف الموت
مأساه نرى اثرها ونسمع انين من عاشوها
حين اقتربت منه بما فيه الكفاية لأهمس له عبد الخالق ماذا بك لم لا تتكلم ماذا فعلوا بك ماذا قالوا لك !
رد عليّ بفيضٍ من دموع كَسرت أحداقه وسالت على وجهه ولحيتهِ الشقراء التي تُخبئ خلفها أشهراً طويلةً قضاها هناك قبلي وعمراً لم يتجاوز الثامنة والعشرين . واختنق ببكاءه وغصَّ وهو يقول :خيي وائل قالولي ((( عالجادر .)))
ونظر إليّ فشعرت أنه اخترق قلبي كأنه يعاتبني فمنذ وصولي وأنا أردد عليه أننا سنخرج يوماً من هناك وأننا سنتظاهر من جديد وأننا لن نموت هناكَ أبداً وأن من هم في الخارج لم ينسونا أبداً !
لكني بعد أن عرفت أنهم سيضعونه تحت الجادر تجمدت بمكاني وتوقف الزمن الذي كنا نعد ثوانية ننتظر الخلاص موتاً سريعاً أو حريةً بعيدة ولم َننَل سوى الوحدة والنسيان والموت الأحمر هناك حيث كان يقبع رجالٌ سوريين كأوطانٍ بأكملها لكنهم دون أسماء لا يعرفهم أحد أبداً رحلوا بصمت مهيب
صمت يشبه كبرياء الشهيد حين يسقطُ مضطرجاً بإيمانه ويغمر جبينهُ التراب وهو بذاتِ اللحظة يعانقُ السماء لأنه قدم روحه وهل بعد الروح شيء
من هنا مرت الفاجعة
وكم هو الفرق بين أن تقرأ المأساة وبين أن تكون فيها وأن تكتب الفاجعة وأن تمر منها ((الجادر )) هو اسم يعرفه السوريون لقماش سميكـ يصنعون منه الخيام وأغطية السيارات الكبيرة فهو قوي لا ينفذ منه الماء ولا يتمزق بسهولة وحين ابتدع المسوخ تلك الطريقة في القتل طبقوها علينا عشرات المرات
حيث كان يؤتى بالمعتقل عارياً ومعصوب العينين يفكون له يديه ورجليه من الأغلال يرمونه على الأرض ليستلقي في وسط الغرفة ثم يغطونه بالجادر ويربطون أطراف الجادر بزوايا الغرفة فتصبح ارض الغرفة كلها مغطاة بالجادر والمعتقل تحته ثم يبدأون بضربه بكل شيء من حديد القضبان الحديدة والمطارق والبواري وأنابيت التمديدات الصحية وبعضهم كان يأتي بأحجار والهدف من ذلك كان شيئين :
الأول : أن الجادر يمنع رشقات الدم التي تنفر من أجساد المعتقلين التي تكون بالأصل مهترئة ومملوءة بالقيح تحت جحيم ضرباتهم أن تصل إليهم
والثاني : أنهم يتنافسون فيما بينهم ليروا من هو الأقوى بينهم بالضرب بحيث يجعل المعتقل يرسم أشكالاً غريبة تحت الجادر كأنه يمثل
بينما صوته يتحول لعويل في ذاكـ القبر الأخير
وكلما دفعَ الألم المعتقل أن يهرب باتجاه ما تجمعوا له بذات الإتجاه ليمطروه بالضربات التي تكسّر المُكَسرْ من عظامه أضعافاً مضاعفة فيقع عليه بذات اللحظة قَضيبٌ من حديد يكسرُ أضلاعه وحجرةً كبيرة تُفتتُ ركبتيهِ ومطرقة يدقُ بها أحدُ المسوخِ وجهه ليكسرَ بها أحد محاجر عينيه والمعتقل يصرخ ويتقلب بينهم وهم يضحكون ويمرحون
ومشان السيد الرئيس خود هي يا خاين ولماذا يحضر فيهم الرئيس ويغيب الوطن ولماذا يغيب فينا الشخص ويحضر الوطن ولماذا مددنا نحو الحرية جسوراً صنعناها من لحومنا ودماءنا بينما حفروا هم خنادق حول رئيسهم المعتوه كي يعبدوه إلى الأبد
وليجعلوا تحت الجادر من الأمتار القليلة التي هي مكان تحرك المعتقل بقعة من العذاب لايمكن أن تصفها كل لغات أهل الأرض لو اتحدت معاً ولا يليق أمامها سوى الصمت فقط
قيمة الاوطان بما تنجب
إن قيمة الأوطان ليست بما تملك بل بما تنجب من أبنائها الذين يخطون اسمها على صفحات التاريخ بالتضحيات وإن قيمة الإنسان ليست بما يحوز بل بمدى إيمانه بقضيته التي قدم لها روحه وهو يبتسم وأي قضية أطهر من وطنكَ لتؤمن به ومن أكثر منا نحن السوريين فعل ذلك ….
بعد أقل من ساعة استدعونا للتحقيق وكنا ستة عشر مكبلين بسلسلة واحدة . ضغطت علي يدِ عبد الخالق فإسمه لم يأتي معنا وعرفتُ مصيره ورأيت ذاك بعينيه تركوه في زنزانتنا ليلتهموه وحيداً
افترقت يداي من يديه بعد أن خرجت مع باقي المعتقلين لأتركه خلفي لكنه لايزال أمامي حتى أموت الخامسة صباحاً حين عُدنا من قسم التحقيق كُنت مَملوءاً بأمل أن تكون معجزة حصلت وأجد عبد الخالق حياً لكن الأمل بدأ يتبدد رويداً رويداً حين بدا لي الجادر وعليه جسده الغض الجميل
جدران لو كان لها روح لبكت
عبد الخالق كان ممحيّ الملامح تماماً وجههُ كان قطعةً مهروسة من اللحم الممزوج بقطع الدم قلعوا عيناه واختلط ماء بصره بالدموع التي ذرفها قبل الموت ويداه مكسورتان وأضلاعه بعضها ظاهر بعد أن كشطوا لحم صدره كله .ورُكَبُ رجليهِ شقت لحمه وخرجت تنادي عليكم أيها السوريين أو على ما تبقى منكم .
ومرت أمامي كل الثواني التي مضت مع عبد الخالق ذاك الجبل السوري الشامخ كان يقول لي وائل الزهراوي من عنا من حمص مانك من حلب !وكنت أقول له أنت ملامحك أوربيه لست عربيا فكان يغضب ويقول أنا عربي وسوري وحق هدول ويشير إلى حفر ذراعه التي يظهر منها عظامه من آثار التعذيب . ثم يبتسم طويلاً . ويحدق في سقف زنزانتنا
وقعتُ من عظيم مُصابي بعبد الخالق على ركبتيّ حين رأيته . لكن كبل الدبابة على ظهري أقامني من جديد
ماتوا بصمت او ضوضاء
وكم من عبد الخالق مضى لأجل الوطن ولم يَكتب عنه أحد ولم يعرف عنه أحد وكم من سوري مضى شامخاً إلى مصيره بصمت وهدوء دون كل هذه الضوضاء
بقي عبد الخالق يوماً كاملاً هناك قبل أن يحملوا جسده الطاهر إلى المجهول والبعض لا يحتمل حتى أن يقرأ كلمات عن أولئك السوريين ولا يريد أن يصدق فداحة الحقيقة وعمق إجرامهم و قبلَ أن نستسلم علينا أن ُنفكر كيف استطعنا أن نصمدَ كل ذاكَ الوقت لنعرف أننا صمدنا بدم عبد الخالق وسواه من السوريين الشرفاء السوريين الذين قدموا كل شيء ولم يأخذوا أي شيء
إن حياتي كلها وكل ما ذقته من عذاب لا تساوي غباراً كان يسكن حول جسد عبد الخالق الذي ذاق الموت الأحمر تحت الجادر فداءً للحرية ويا من تتقاسمون الوطن حتى قبل أن تحرروه هل فكرتم للمحه إن كنتم حقاً تستحقوه . !
إن أهم مافي الموت أنه يعطينا قيمة الحياة .
وإن حياة أولئك السوريين الذين لم تنجب النساء مثلهم كانت أساطير لم يعرف التاريخ مثلها وذلك لأن كل الرجال العظماء ذاقوا في حياتهم ألما عظيماً وحُزناً عظيماً لكن تلك كانت أقدارهم
أما أولئك السوريين فقد كان اختيارهم وبمحض إرادتهم الخالصة تقدموا للفداء واختاروا التضحيةَ فكانوا أعظم من مر في تاريخ نضال الشعوب في القانون نقول المتهم بريئ حتى تثبت إدانته … لكني في الثورة أقول اليوم غير ذاك
فكلنا خونة إن تركنا قطرة دم واحدة من دمائهم تذهب هباءً وكلنا خونة إن نسينا قضيتنا واستسلمنا للبكاء و كلنا خونة إن سامحنا أو رضينا أو عفونا أو تنازلنا عن صرخة واحدة صرخناها فسوانا دفع حياته كلها ثمناً لها
عبد الخالق البارحة حلمتُ بكـ يا أخياه
ووالله لازالت ابتسامتك ولحيتكَ الشقراء تطلان على حياتي كالوطنِ حين يجتاحني الحزن العتيق على أؤلئك السوريين الخالدين ووالله لو خان كل أهل الأرض دمك يا أخياه
ثق أن هناك سوريين شرفاء الإباء طبعهم والإخلاص شيمتهم سيبقى ضياء تضحياتكم في صدورهم يتوارثونه جيلاً فجيلا
ولن ننساكم يا أيها السوريين الأحرار ما دمنا أحياء فإن متنا فلن ينساكم رب السماء
ارقدوا بسلامٍ آمنين يارفاق العذاب
القاتل (نصر إسبر) لازال يعيش ككل الآخرين في وطني المحتل ولم يحاكمه أحد هاد الشخص كان مسؤول عن تلك الفظائع والجرائم
عندما أصيب المعتقل (عبد المجيد) بالشلل في إدارة المخابرات الجوية بدمشق نتيجة غرزهم مسماراً في ظهره، لم يكن يعلم أن المساعد: (نصر إسبر) سيفقأ له عينه اليمنى بالكبل في قسم التحقيق لتسوء حال عينه الثانية وخلال أسبوع واحد يمسي ضريراً في ظلمات بعضها فوق بعض
ويكون أحد المقُعدين الذين كانوا في زاوية زنزانتنا صرخة وجع تطعن ضمير هذا العالم الصامت في قطعة الجحيم تلك لم يكن المقعدون المصابون بالشلل يذهبون معنا للمراحيض كانت كل فضلاتهم تحتهم، في بعض الأحيان كنا نحفظها بأكياس النايلو التي نادراً ما كنا نحصل عليها، وكانت رائحتهم قاتلة لدرجة أننا نحبس أنفاسنا حين نحفظ واحداً منهم
في كل مرة كنت أقترب فيها من عبد المجيد لأتأكد إن كان حياً أم أنه استشهد وأسأله أخي عبد المجيد كيف أنت. كان يستجيب لأي كلمة بخليط عميق من ملامح الأسى التي كانت تتصارع لتفوز بوجهه الجميل، ويمد يده التي ترتجف إلي ويحاول أن يدير وجهه بالاتجاه الصحيح نحوي لترتعش كالعادة شفتيه عدة مرات ويسيل لعابه خارج فمه قبل أن يقول بلهجته الحموية:
خيي وائل أنا مشتاق للأولاد كتير والمشكلة حتى لو طلعت من هون كيف بدي شوفهن أنا عميت أخي وائل مبارح حلمت إني طلعت وشفت الولاد وبستهن كلهن ثم يضخ حزن الكون كله في قلبي حين يبدأ بالبكاء دون دموع، ويقول: أنا مسجون بعتمتي خيي وائل أنا ما بقى تفرق معي الأماكن كلها بالنسبة إلي صارت سجن ويشهق ليكمل جملته التي لازالت تقضم قلبي ويقول :
بلكي بحضنهن مرة قبل ما موت.
كنت أظن أن العميان لا يحلمون لكني عرفت في الزنزانة أن كل شيء يحلم حتى الأشياء والشوارع والنوافذ، في منتصف الليل (سحلوه) من رجليه وهو يتلفت في عتمات عينيه ولا يعرف أين يأخذوه، وبعد أيام كانت جثته في الممر كأنها وطنٌ مهجور لم يسكن فيه أحد سوى دموعنا عليه، دموعنا التي ذهبت هباءً.
حين خرجتُ من المعتقل ورأيت ابنتي لأول مرة لم تعرفني، وحين سألتني من أكون اخترقني سؤالها كرمح، لم أستطع حتى أن أجيبها من أكون!! كيف يخبر أبُ ابنته أنه والدها كيف!!؟؟ غصصت وانتحبت بكاءً لصورة عبد المجيد التي سيطرت على ذهني عندما سألني كيف يمكن أن يرى أولاده بعد أن أقعدوه وأعموه!!
أنا خَجلٌ من عبد المجيد لأني رأيت طفلتي، وهو لن يتمكن بعد اليوم من رؤية ملامح أطفاله.!! وخجل لأن القاتل (نصر إسبر) لازال يعيش ككل الآخرين في وطني المحتل ولم يحاكمه أحد، وخجل من الظلام الذي كان سجن عبد المجيد الكبير ولم يطلق سراحه منه سوى الموت.
رائحته التي كانت تؤلم الجدران أطيب عندي من طيوب الدنيا، وقطع البراز التي كانت قد يَبست على قروحه التي ملأت ظهره وفخذيه كنت أقشرها له بقطعة قماش من قميص معتقل مات بالأمس عبد المجيد كان يحلم أن يعود يوماً لكنه بقي هناك لأجلكم قبل الموت أعطاكم قوته وبصره، وبعد الموت أعطاكم روحه وحياته
ماساه وصمه في جبين التاريخ
آه يا وجعي آه يا عبد المجيد، أنا اليوم أتمنى لو كنت ضريراً ولا أرى ما يفعله بنا من حسبناهم منا قبل أعدائنا عبد المجيد كان شريك العذاب
كان السوري المسحوق الذي تحتاجون لمجهرٍ كي تروه، عبد المجيد هو أنا وكل السوريين الذين خانهم كل هذا العالم هل تسمعوننا أيها السادة هناك.!!! أنتم يا من تفاوضون على بحر من دمائنا وتراث من هتافاتنا وحضارات من مقابرنا
لم يعد لدينا لكم سوى جملة واحدة يا سادتي:سنثور عليكم من جديد عبد المجيد هو كل السوريين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا على الاستمرار دمتم بكل خير مع تحيات شبكة زينو ياسر محاميد