تركيا إلى أين ؟
خرجت من الجغرافيا الواسعة وظلت أسيرة نزعت الطرابيش عن الرؤوس وظلت الطرابيش في الكثير من الرؤوس .. ألغت الأبجدية العربية وأعتمدت الأحرف اللاتينية فخرجت من بيئتها العربية الإسلامية ولم تدخل الجنة الأوروبية .. أخرجت الدين من الدولة ولم تتمكن من إخراج الدولة من الدين
إنها تركيا ، وريثة الدولة العثمانية ، والمؤتمنة على إرث مصطفى كمال الضائع بين علمنة تتراجع وأصولية تبحث عن موطئ قدم ، وبينهما إسلام يوصف بالمعتدل في بيئة جغرافية واجتماعية وسياسية باتت رأس الحربة في النزاع السني الشيعي الذي يهدد المنطقة بمجمل مكوناتها الدينية والمذهبية والعرقية ، وحتى الجغرافية .
وجاءت الحرب السورية وقبلها العراقية وقبلهما انتصار ثورة الخميني في إيران ، لتجد تركيا نفسها محاطة بما سمي بـ الهلال الشيعي الذي بات يطوق حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية ويفرض واقعا جيو سياسيا ومذهبيا متجددا على الدولة السنية الأقوى في المنطقة و” وكيلة ” حلف شمال الأطلسي فيها
سياسات تركيا صناعة من؟
لا يمكن الفصل بين سياسة الحكومة وقراراتها وشخص رئيسها لأنه هو من يقرر كل شيء، من أهم السياسات إلى أتفهها . والغالبية العظمى من الشعارات التي رفعت خلال الأيام القليلة الماضية تندد به شخصيا وما يجري هو تعبير عن استياء متراكم منذ عدة سنوات ولا أحد يعرف كيف سينتهي .
لكن أردوغان ، وصل إلى السلطة منذ زمن عبر انتخابات ديموقراطية وأعيد انتخابه وهو رئيس حكومة فعل الكثير لتركيا ، قضى على الكماليين الذين كانوا يقودون البلاد منذ عشرات السنين وكسر التابوهات ومنح الحقوق عن اليمين واليسار لكن السلطة تفسد عادة ، وقد استهلكت قواه وقدراته ، على غرار ما جرى للرئيس الفرنسي شارل ديغول ورئيسة الحكومة البريطانية الراحلة مارغاريت تاتشر . وفي السنوات الخمس الأخيرة تحول إلى طاغية مستنير وتدخل في كل الشؤون وسعى إلى إعادة هندسة المجتمع التركي .لكنه لا يبدو منهكا وقد ركز على ديموقراطية انتخابه وأن الشعب يقرر في الانتخابات
وأعطى مفهومه هو للديموقراطية القائمة على كسب الانتخابات وانتظار الانتخابات التالية . ولكنه، بخلاف الرئيس غول ، لا يؤمن بالديموقراطية التشاركية فهو لا يعترف بمن لم يصوت أو بمن صوت ضده . بينما الشراكة الديموقراطية تعني مشاركة مختلف مكونات المجتمع ، من موالين ومعارضين
الوجه الآخر لتركيا التي يتغزل بها التيار الإسلامي
تركيا دولة تابعة بالكامل لواشنطن ويوجد بها 26 قاعدة عسكرية لأمريكا موجهة ضد المصالح العربية ولخدمة الحلف الأمريكى – الإسرائيلى
تركيا أكبر شريك عسكرى لإسرائيل ومحاولات التعاون الرئيسية (أنابيب السلام – التجارة الحرة – التعاون الاستراتيجى ضد المقاومة العربية).
تركيا قدمت لإسرائيل فرص استراتيجية كبيرة لتدريب الطيران الإسرائيلى فى صحراء الأناضول بهدف التدريب على عمليات القتل المنظم للفلسطينيين فى الانتفاضة الأولى (1987) والثانية (2000) واليوم فى قطاع غزة (2012).
الإسلام الحاكم فى تركيا هو (إسلام البزنس) وليس إسلام المقاومة والثورة ، والاهتمام التركى بالانتماء للحلف الأطلسى أهم من الانتماء للإسلام وهي تركب الثورات العربية من أجل هذا الهدف والذين يتخذون من تركيا وأردوجان وحزبه مثالاً يحتذى دونما تمحيص أو وتأمل
إسلام البزنس
أولاً : الإسلام فى تركيا وتحديداً لدى أردوجان وحزبه يأتى كأداة ووظيفة وليس كعقيدة حاكمة وهو يأتى فى المرتبة الثانية بعد (العلمانية) الأتاتوركية – نسبة إلى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة – الحاكمة والتى يحترمها أردوغان ويعلن صباح مساء تمسكه بها ، وبأن الإسلام الذى يؤمن به هو (إسلام البزنس) وليس إسلام المقاومة والثورة كما قد يتخيل البعض ممن يعجبه رطانة أردوغان وخطاباته الفارغة ، والتى يستهدف بها من بين ما يستهدف دغدغة مشاعر المسلمين والعرب ، خاصة فيما يتصل بالشأن السوري ، والذى يحكم أردوغان فيه هدف رئيسي هو مصالحه الشخصيه
إن التحالف الاستراتيجى بين تركيا وكل من إسرائيل وأمريكا هو الحاكم لنظرية حكام أسطنبول (المتأسلمين) ؛ فوفقاً لبحث مهم للكاتب اللبناني المعروف محمد نور الدين (صحيفة السفير 24/5/2012) لم يتغير الدور التركي فى حلف شمال الأطلسى منذ أن انضمت إليه فى العام 1952 وكان استكمالاً لاعتمادها النهج الغربى فى سياساتها الخارجية، بعدما كانت أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل بعد إعلان قيامها عام 1948 ، تعاقبت حكومات وحدثت انقلابات عسكرية وتناوب العسكر والعلمانيون والإسلاميون على السلطة،ولم يتغير ثبات تركيا فى ولائها للمنظمة التى كانت الشيوعية عدّوها المطلق ، قبل أن تنهار ليحل محلها الإسلام.تغير لون “العدو” من أحمر إلى أخضر،لكن لون السياسة الخارجية لتركيا لم يتغير،ومن التطورات الأخيرة فى المنطقة بدا واضحاً أن انفتاح تركيا ، فى السنوات الأخيرة ، على دول جوارها الجغرافى كان مجرد ” حلم ليلة صيف ” ، حيث تؤكد سياسات “حزب العدالة والتنمية ” أن المزيد من التورط فى اللعبة الأطلسية هو الضامن لاستمراره فى السلطة ، فى مواجهة العلمانيين والأكراد واليساريين ، بل حتى القوميين الأتراك ”
لا يمكن لأحد أن يحلل السياسة الخارجية التركية بمعزل عن دورها فى حلف شمال الأطلسى .وهذا يضع دائماً شكوكاً سميكة على أية خطوة تركية “إيجابية” فى اتجاه الدول والقوى المعادية للمشروع الصهيوني ، أو المعارضة للسياسات الغربية فى المنطقة .
يقول عبد الحميد بالجى ، الكاتب الإسلامى التركى فى صحيفة ” زمان ” التركية : ” حالت دون أن يتحول الأطلسي إلى تحالف صليبي ” .. تركيا بمشاركتها مثلاً فى حرب أفغانستان لم تكن ترشد الأطلسيين إلى حساسيات المجتمع الإسلامي ليتفادوا إثارة النعرات .. بل على العكس كانت الغطاء الذى يمرر تجاوزات الأطلسيين هناك ” كم من مرة ارتكب جنود ” الأطلسي” عمليات قتل للمدنيين واغتصاب للفتيات وتدنيس للمقدسات وانتهاك الحرمات والأخلاق ؟ ألم يكن هذا كله وتركيا جزءاً من الوجود الأطلسي فى أفغانستان ؟ وماذا فعلت حكومة حزب العدالة والتنمية لكى تحول دون هذه الانتهاكات ، وأى موقف اتخذته استنكاراً على الأقل ؟ .
إن السياسة التركية انقلبت على نفسها فى السنة الأخيرة 180 درجة –هكذا يكتب العلمانى (مراد يتكين) مثلاً فى صحيفة ” راديكال ” ، قائلاً إن انتقال إدارة الرادارات فى ملاطية من يد الولايات المتحدة إلى يد الأطلسى سيقوى وضع تركيا ويرى أن الغرب ينتظر من تركيا أن تستعيد علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل وقبرص اليونانية ، وحتى أرمينيا .
وفى المحصلة – يقول محمد نور الدين فى مقاله – كلما ازداد دور تركيا داخل حلف شمال الأطلسى تبعية كلما ابتعدت أكثر عن حساسيات الشارع فى العالم الإسلامي وقلّت مصداقيتها طبعاً إلا لدى إسلاميينا وبعض نخبتنا التابعة كالاخوان المسلمين ، شديدة السطحية والذين يركزون على القشرة الخارجية (لتركيا أردوغان) ولا يبحثون عن اللب والجوهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا على الاستمرار دمتم بكل خير مع تحيات شبكة زينو ياسر محاميد